من أقول المفسرين : في تفسير قوله تعالى " مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ " (الأحزاب:4) . (1) ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما مُختَصره: " يقول تعالى مُوطِّئا قبل المقصود المعنوي , آمراَ معروفاً حسيَّا , وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: " أنت على كظهر أمي " أما له , كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له , فقال ـ تعالى ـ : " مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ" هذا هو المقصود بالنفي , فإنها نزلت في شأن (زيد بن حارثة) ـ رضي الله عنه ـ مولى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تبناه قبل النبوة , فكان يقال له (زيد بن محمد) فأراد الله ـ تعالى ـ أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى : " وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ " كما قال تعالى : " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ " , وقال ههنا: " ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ " يعني: تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر , فلا يمكن أن يكون له أبوان , كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان , " وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ" أي العدل , " وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " أي الصراط المستقيم . (2) وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحم الله كاتبه ـ ما نصُّه : " مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ " مثل ضربه الله للمُظاهِر من امرأته , والمُتبَنِّي ولداً غيره تمهيداً لما بعده . أي كما لم يخلق الله للإنسان قلبَيْن في جوفه , لم يجعل المرأة الواحدة زوجاً للرجل وأمَّا له , والمرء دعيَّاً لرجل وابناً له . " وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ " بتحريمهن على أنفسكم تحريماً مُؤبَّداً وقد ردَّ الله تعالى عليهم بقوله : "الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِوَزُوراً" . "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ " جمع دعي , وهو الذي يدعي ابناً لغير أبيه . وكان الرجل يتبنى ولداً غيره , ويجري عليه أحكام البنوة النسبيَّة , ومنها حرمة تزوُّجه بمطلقته , كما تَحرُم زوجة الابن النسبيّ على أبيه , فأبطل الله بذلك حكم هذا الظِّهار , وأبطل التبنَّي . " ذلكم " أي ما ذكر منهما " ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ " أي مجرَّد قول باللسان لا يحكي الواقع . " وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ " أي القول الثابت المحقَّق " وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ " يرشد إلي سبيل الحق . (3) ويقول صاحب الظلال ـ رحمه الله رحمة واسعة جزاءَ ما قدم ـ في استعراض واقعتَيْ الظهار والتبني كلاماً غير مسبوق كنت أتمنى سوقه هنا لولا ضيق المكان , ولكنه قدَّم لاستعراض هاتين الواقعتين بكلام رائع وغير مسبوق أيضا في تفسير قوله ـ تعالى : " مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ " . جاء فيه : " إنه قلب واحد , فلابد له من منهج واحد يسير عليه , ولابد له من تصور كليّ واحد للحياة وللوجود يستمد منه . ولابد له من ميزان واحد يزن به القيم , ويقوِّم به الأحداث والأشياء . وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى , ولم يستقم على اتجاه . ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من مَعِينٍ , ويستمد شرائعه وقوانينه من مَعِينٍ آخر , ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من مَعِينٍ ثالث , ويستمد فنونه وتصوراته من مَعِينٍ رابع ... فهذا الخليط لا يكوِّن إنسانا له قلب , إنما يكون مزقاً وأشلاءاً ليس لها قوام! وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقاً , ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها , صغيراً كان هذا الموقف أم كبيراً , لا يملك أن يقول كلمة , أو يتحرك حركة , أو ينوي نية , أو يتصور تصوراً غير محكوم في هذا كله بعقيدته ـ إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه ـ لأن الله لم يجعل له سوي قلب واحد , يخضع لناموس واحد , ويستمد من تصور واحد , ويزن بميزان واحد . لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية , وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات , أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام , إنه شخص واحد له قلب واحد , تعمِّره عقيدة واحدة , وله تصور واحد للحياة , وميزان واحد للقيم . وتصوره المُستمَد من عقيدته مُتلبِس بكل ما يصدر عنه في كل حالة من حالاته على السواء . وبهذا القلب الواحد يعيش فردا , ويعيش في الأسرة , ويعيش في الجماعة , ويعيش في الدولة , ويعيش في العالم , ويعيش سرا وعلانية , ويعيش عاملاً وصاحب عمل , ويعيش حاكماً ومحكوماً ويعيش في السراء والضراء ... فلا تتبدل موازينه , ولا تتبدل قيمه ولا تصوراته "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ " .
|