عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) متفق عليه.
هذا الحديث أصل في امتثال الشرع واتباع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم و الإقتداء به وترك مخالفته. وفيه مسائل:
الأولى: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن اجتناب المحرمات أفضل من فعل المأمورات لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الإستطاعة. والصحيح أن ما ورد محمول على تفضيل ترك المحرمات على نوافل الطاعات أما جنس الواجبات فأفضل من جنس ترك المحرمات وقد تظافرت الأدلة على ذلك فمن ذلك: ماروي في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قال الله عز وجل ما تقرب عبدي إلي بشي أحب مما افترضته عليه ). ولأن الفرائض مقصودة لذاتها والمحرمات مطلوب عدمها ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمال ، ولذلك كان جنس ترك الأعمال قد يكون كفرا كترك التوحيد وترك أركان الإسلام أو بعضها بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه ، ويشهد لذلك قول ابن عمر " لرد دانق حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله ". وقال ابن المبارك " لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق مائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف ". وقال عمر بن عبد العزيز " ليست التقوى قيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك ولكن التقوى أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فإن كان مع ذلك عمل فهو خير إلى خير ". وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات وإن قلت أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات لأن الأول فرض والثاني نفل فيتقدم عليه.
الثانية: للنهي صيغة وهي ( لا تفعل ) ، وتنقسم هذه الصيغة في دلالة النصوص الشرعية إلى قسمين:
(1) نهي تحريم: وهو كل مانهى الشرع عن فعله على سبيل الإلزام كالنهي عن شرب الخمر والزنا والربا والغيبة والنميمة.
(2) نهي كراهة: وهو كل مانهى الشرع عن فعله على سبيل التنزيه كالنهي عن التخصر وفرقعة الأصابع وتشبيكها في الصلاة والنهي عن الأكل متكئا . والأول يعاقب المكلف على فعله ويثاب على تركه والثاني لا يعاقب على فعله و يثاب على تركه. وقد ترد هذه الصيغة وتحمل على معاني أخرى غير النهي لقرائن تدل عليها كالإرشاد. والأصل في النهي التحريم إلا إذا دلت قرينة تصرفه إلى الكراهة.
الثالثة: إذا عاد النهي إلى ذات العبادة أو شرطها فإنه يقتضي فساد المنهي عنه كالنهي عن صوم العيدين وصلاة السكران ، أما إذا كان النهي خارجا عن ذات العبادة وشرطها فإنه لا يقتضي فساد المنهي عنه لأن جهة النهي منفكة عن جهة الفعل فيصح الفعل مع الإثم كالصلاة في الأرض المغصوبة والصوم المشتمل على النميمة و قد ذهب إلى هذا جماعة من المحققين وقد أنكر عبد الرحمن بن مهدي قول الشمرية في إبطال الصلاة بثوب محرم وجعل هذا القول بدعة . قال ابن رجب:" ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها ".
وكذلك النهي في باب المعاملات ينقسم من حيث صحة المعاملة المنهي عنها أو بطلانها إلى قسمين:
1- أن يكون النهي لحق الله تعالى لا يسقط برضا المتعاقدين عليه فهذا باطل لا يفيد الملك بالكلية كنكاح ما يحرم نكاحه والنكاح بغير ولي وعقد الربا وبيع كل ما يحرم كالخمر والخنزير والأصنام.
2- أن يكون النهي لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه فهذا يتوقف صحة العقد على رضاه فإن رضي به لزم العقد واستمر الملك وإن لم يرض به فله الفسخ إلا من لا يعتبر رضاه في الشرع ، ومثال هذا القسم تزويج المرأة بغير إذنها وتصرف الفضولي والوصية بجميع المال وبيع التدليس وتلقي الركبان وتخصيص بعض الأولاد بالعطية.
الرابعة: للأمر صيغة وهي ( افعل ) وتنقسم هذه الصيغة في دلالة النصوص الشرعية إلى قسمين:
(1) أمر إيجاب: وهو كل ما أمر به الشرع على سبيل الإلزام كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
(2) أمر استحباب: وهو كل ما أمر به الشرع على سبيل الندب كالإشهاد في البيع وإعلان النكاح. والأول يثاب فاعله ويعاقب تاركه والثاني يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، والأصل في الأمر الوجوب إلا إذا دلت قرينة تصرفه إلى الإستحباب. وقد ترد هذه الصيغة وتحمل على معاني أخرى غير الأمر لقرائن تدل عليها كالإباحة والإرشاد والتهديد وغيرها. والصحيح أن الأمر على الفور إلا إذا دل الدليل على التراخي.
الخامسة: إشترط الشارع في لزوم الأمر القدرة والإستطاعة. قال الله تعالى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ). وقال تعالى في الحج ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) . فإن استطاع المكلف استطاعة تامة لزمه الإتيان بالفعل كله وإن عجز عنه سقط بالكلية وإن عجز عن بعضه لزمه الإتيان بما استطاع منه كالعاجز عن القيام أو الركوع أو السجود في الصلاة يسقط عنه ويصلى على حسب حاله إيماءً ، وكذلك فاقد الطهورين الماء والتراب يصلى بلا طهارة على حسب حاله ، وكذلك العاجز عن استقبال القبلة يصلي لغير القبلة ، وكذلك من عجز عن إخراج الصاع كله في صدقة الفطر يخرج ما قدر عليه ولم يسقط عنه بالكلية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار ( صل قائما فإن لم تستطع فصل قاعدا فإن لم تستطع فصل على جنب ) رواه البخاري.
السادسة: دلت النصوص الشرعية بمجموعها على أن السؤال ضربان:
الأول: محمود وهو سؤال المرء العالم عن ما يجهله من أمور الدين وأحكام الشرع قال الله تعالى ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ). ومن ذلك السؤال للتوسع في الفقه في الدين لحفظ دين الله والقيام بالوظائف الدينية كالإفتاء والقضاء.
الثاني: مذموم قد ورد في الشرع النهي عنه قال المغيرة بن شعبة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) متفق عليه. وهو السؤال عما أخفاه الله تعالى عن عباده واستأثر بعلمه. والسؤال على وجه العبث والتعنت والإستهزاء كسؤال الكفار للأنبياء المعجزات عنادا واستكبارا. والسؤال عن الأغاليط وهي التي يغالط بها العلماء تحريا لزلاتهم وفتنتهم. والسؤال عن المسائل النادرة الوقوع التي لا طائل من ورائها. والسؤال والتكلف عن الأمور التي سكت عنها الشرع قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم ). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته ) رواه مسلم. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه يتألفهم بذلك أما المهاجرون والأنصار والمقيمون في المدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنهوا عن المسألة كما في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال " أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ".
السابعة: في الحديث إشارة عظيمة إلى أن موقف المؤمن الصحيح تجاه الشرع هو الإشتغال بامتثال الأوامر واجتناب النواهي والعناية بالعمل والإعراض عن كثرة المسائل والجدل. فالمتعين على المسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب النواهي وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة ولم تكن همتهم مصروفة في البحث عن الحوادث قبل وقتها والمسائل الإفتراضية. سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر فقال " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله " فقال له الرجل أرأيت إن غلبت عليه أرأيت إن زوحمت فقال ابن عمر " إجعل أرأيت في اليمن " رواه البخاري. وقال الحسن " شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يغمون بها عباد الله ". وقال الأوزاعي " إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علما ".
الثامنة: إنقسم الناس في باب التفقه والمسائل إلى أقسام ثلاثة:
الأول: من سد باب المسائل حتى قل علمه وفقهه وما أنزل الله على رسوله. وصار حامل فقه غير فقيه. وهذا مسلك طائفة من أتباع أهل الحديث.
الثاني: من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات والجدال فيه حتى تولد من ذلك العداوة والبغضاء وكان الغرض من ذلك غالبا المغالبة وطلب الرئاسة والمباهاة. وهذا مسلك طائفة من أتباع فقهاء الرأي وقد ذمه العلماء الربانيون ودلت السنة على تحريمه.
الثالث: من كان معظم همه البحث عن معاني كتاب الله وما يفسره من السنة الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها ثم التفقه فيها وتفهمها والوقوف على معانيها ثم معرفة كلام السلف في جميع أنواع العلوم ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق. وهذا مسلك فقهاء أهل الحديث وطريقة الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة السنة. وكان الإمام أحمد إذا سئل عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول" دعونا من هذه المسائل المحدثة ". وقال أحمد بن شبويه " من أراد علم القبر فعليه بالآثار ومن أراد علم الخبز فعليه بالرأي ". يعني علم الدنيا وعلم الآخرة. والحاصل أن أصحاب القسم الأول اعتنوا بالأثر وتركوا الفقه وزهدوا فيه وأصحاب القسم الثاني اعتنوا بالرأي وتركوا الأثر وقصروا فيه وأصحاب القسم الثالث اعتنوا بالأثر والفقه جميعا وهم الذين وفقوا للصواب وأوتوا الحكمة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
التاسعة: في الحديث النهي عن الإختلاف الذي يؤدي إلى التفرق وهو سبب الهلاك والحث على الإجتماع والإتفاق الذي يؤدي إلى ائتلاف القلوب. قال الله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ). وقال تعالى ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) متفق عليه. والإختلاف المذموم شرعا هو مخالفة الكتاب والسنة والخروج عن جماعة المسلمين ونزع يد الطاعة. أما من نطق بالكتاب والسنة واتبع ما جاء عن الله ورسوله فليس من أهل الإختلاف ولو خالف أكثر الناس. وكذلك الإجتماع المحمود شرعا هو موافقة الشرع ومنهج السلف الصالح فحسب وليس هو مجرد موافقة ما عليه الناس بطاعتهم. فإن الشارع لم يعتبر الكثرة دليلا على إصابة الحق والعمل به قال تعالى ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) . وقال تعالى ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ). وبهذا يظهر جليا غلط من ينادي بتوحيد الصف مع صرف النظر عن عقائد الناس بتجاهل هذا الأمر العظيم بل ربما دعا صراحة إلى التقريب بين المذاهب المتغايرة بحجة مصلحة جمع الكلمة . وهذا مسلك مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة وممتنع شرعا وقد ثبت واقعا فشله وأنه لا فائدة فيه ولو تظاهر أهل المذاهب الضالة بالتسامح والتعايش مع أهل السنة.
العاشرة: الإختلاف في مسائل الشرع ضربان:
الأول : في أصول الدين ومسائل الإيمان. وهذا النوع يحرم على المسلم المخالفة فيه ولا يعذر أحد في ذلك إلا من كان جاهلا أو متأولا ولم تبلغه الحجة. ومن وقع في ذلك شرع الرد عليه وبيان الحق له فإن استجاب فالحمد لله وإن عاند وأعرض عن الحق فلا كرامة له. وقد كان أئمة السلف يردون وينكرون ويشددون على من خالف في هذا الباب حفظا للدين وصيانة للسنة وتحذيرا للخلق من فتنته.
الثاني: في فروع الدين والمسائل العملية الفقهية. وهذا النوع الإختلاف بين المسلمين سائغ شرعا والأمر في ذلك واسع ولا ينكر على المخالف في هذا الباب ما لم يخالف إجماعا قطعيا أو سنة صريحة. وما زال الصحابة يختلفون في كثير من المسائل ولا ينكر بعضهم على بعض. وقد صرح العلماء المحققون بذلك. لكن هناك مسائل تواترت بها السنة واستفاضت وصارت شعارا لأهل السنة تميزهم عن غيرهم كقصر الصلاة والمسح على الخفين والتعجيل في الفطر ونحوها. ولذلك درج أهل الإعتقاد على ذكرها في مصنفاتهم ، فهذه المسائل مخالفة مذهب أهل السنة فيها من طريقة أهل البدع.
منقول للاستفادة