الحديث الثلاثون
عَنْ أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ نَاشِرٍ رضي الله عنه عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)[221] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
الشرح
فَرَضَ" أي أوجب قطعاً، لأنه من الفرض وهو القطع.
" فَرَائِضَ" ولا نقول: ( فرائضاً) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى الجموع.
" فَرَضَ فَرَائِضَ" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام،والحج،وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى.
" فَلا تُضَيِّعُوهَا" أي تهملوها فتضيع ، بل حافظوا عليها.
"وَحَدَّ حُدودَاً فَلا تَعتَدوها" الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل:إن المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول،أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عزّ وجل الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول:لا تعتده أي لاتتجاوزه، والمحرم نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل والشرب على الصائم قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا )(البقرة: الآية229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقرَبُوهَا )[البقرة:187].
"وَحَرَّمَ أَشيَاء" (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث الممدودة.
"فَلا تَنتَهِكوهَا" أي فلا تفعلوها، مثل :الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وأشياء كثيرة لا تحصى.
"وَسَكَتَ عَنْ أَشيَاء رَحمَةً لَكُمْ غَيرَ نسيَان فَلا تَبحَثوا عَنهَا" سكت عن أشياء أي لم يحرمها ولم يفرضها.
قال: سكت بمعنى لم يقل فيها شيئاً ، ولا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: "غَيْرَ نسيَان" أي أنه عزّ وجل لم يتركها ناسياً ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: الآية64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
"فَلا تَبحَثوا عَنهَا" أي لا تسألوا، مأخوذ من بحث الطائر في الأرض، أي لا تُنَقِّبُوا عنها،بل دعوها.
الفوائد من هذا الحديث:
1-إثبات أن الأمر لله عزّ وجل وحده، فهو الذي يفرض،وهو الذي يوجب،وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله،لقوله: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائض" ...وقَالَ: "وَحَرمَ أَشيَاء"
فإن قال قائل: هل الفرض والواجب بمعنى واحد، أو الفرض غير الواجب؟
فالجواب:أما من حيث التأثيم بترك ذلك فهما واحد.
وأما من حيث الوصف:هل هذا فرض أو واجب؟ فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا ، فقال بعضهم:
الفرض ما كان دليله قطعياً، والواجب ما كان دليله ظنياً.
وقال آخرون: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة.
وكلا القولين ضعيف، والصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .
.2أن الدين الإسلامي ينقسم إلى فرائض ومحرمات.
.3وجوب المحافظة على فرائض الله عزّ وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن مفهومه وجوب المحافظة عليها.
.4أن الله عزّ وجل حد حدوداً، بمعنى أنه جعل الواجب بيناً والحرام بيناً: كالحد الفاصل بين أراضي الناس، وقد سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
.5تحريم تعدي حدود الله، لقوله: "فَلاَ تَعتَدوهَا".
وانظر كيف كرر الله عزّ وجل النهي عن التعدي إلى حدود الله في مسألة الطلاق،يتبين لك أهمية النكاح عقداً وإطلاقاً.
.6أنه لا يجوز تجاوز الحد في العقوبات،فالزاني مثلاً إذا زنا وكان بكراً فإنه يجلد مائة جلدة ويغرّب عاماً، ولا يجوز أن نزيد على مائة جلدة، ونقول يجلد مائة وخمسين مثلاً، فإن هذا محرم.
فإن قال قائل: إذا اقتصرنا على مائة جلدة ربما يكثر الزنا، وإذا زدنا يقل؟
فالجواب:أأنتم أعلم أم الله؟ وما دام الله عزّ وجل فرض مائة جلدة فلا نتجاوزها، بالاضافة إلى تغريب عام على خلاف بين العلماء في ذلك، هل يغرب أو لا، لأنه ثبت بالسنة، والخلاف في هذا معروف.
ومن هنا نعرف أن عقوبة شارب الخمر ليست حداً، ولا يمكن أن نقول:إنها حد فلو كانت حداً ما تجاوزها عمر والصحابة رضي الله عنهم،
ثم هناك دليل آخر من نفس القضية، لما استشار عمر الصحابة رضي الله عنهم ، قال عبد الرحمن بن عوف:يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون،ويعني بذلك حد القذف.
ولو كانت عقوبة شارب الخمر حداً لكان أخف الحدود أربعين، وهذا شيء واضح،لكن - سبحان الله - الفقهاء - رحمهم الله - يرونه حداً، وعند التأمل يتبين أن القول بأنه حد ضعيف، ولا يمكن لعمر رضي الله عنه ولا لغيره أن يتجاوز حد الله عزّ وجل.
.7وصف الله عزّ وجل بالسكوت، هذا من تمام كماله عزّ وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.
.8أنه يحرم على الإنسان أن ينتهك محارم الله عزّ وجل، لقوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلا تَنتَهِكُوهَا".
وطرق التحريم كثيرة، منها: النهي، ومنها: التصريح بالتحريم،ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات التحريم طرق.
.9أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن هذا في غير العبادات،فالعبادات قد حرم الله عزّ وجل أن يشرع أحد الناس عبادة لم يأذن بها الله عزّ وجل، فتدخل في قوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلاَ تَنتَهِكُوهَا".
ولهذا نقول:إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عزّ وجل عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها،وغير ذلك الأصل فيه الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.
وحينئذ نذكر مسألة يكثر السؤال عنها،ربما نعرف حكمها من هذا الحديث: يسأل بعض الناس ولاسيما النساء:هل يجوز للإنسان أن يزيل شعر الساق، أو شعر الذراع أو لا يجوز؟
فالجواب: الشعور ثلاثة أقسام:
الأول : ما نهي عن إزالته.
الثاني : ما أمر بإزالته.
الثالث: ما سكت عنه.
فأما ما أمر بإزالته فمعروف:كالعانة والإبط للرجال والنساء والشارب بالنسبة للرجال ، فهذا مأمور بإزالته، لكن الشارب لا يؤمر بإزالته نهائياً كالحلق مثلاً، حتى إن الإمام مالك- رحمه الله - قال: ينبغي أن يؤدب من حلق شاربه،لأن الحديث أحفوا الشوَارب[222]
والثاني: ما نهي عن إزالته كشعر اللحية بالنسبة للرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها وقال: خَالِفُوا المَجوسَ[223] خَالِفُوا المُشرِكينَ[224] فلا يحل لأحد أن يحلق لحيته، بل ولا أن ينقص منها على القول الراجح حتى لو زادت على القبضة.
وأما إجازة الفقهاء- رحمهم الله - قص ما زاد على القبضة واستدلالهم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما[225] ، فهذا رأي لكنه مخالف لظاهر الحديث.
وابن عمر رضي الله عنهما ليس يقص ما زاد على القبضة في كل السنة، إنما يفعل ذلك إذا حج أو اعتمر فقط، وهذا فرق بين ما شغف به بعض الناس وقالوا: إن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أخذ ما زاد على القبضة.
وكأنه - والله أعلم - رأى أن هذا من كمال التقصير أو الحلق.
ومع ذلك فرأيه رضي الله عنه غير صواب، فالصواب فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجب أن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى حديث الأمر بإعفاء اللحية وهو يفعله، لكن نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما عنده من العبادة ما فات كثيراً من الناس إلا أنه تأول ، والمتأول مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
القسم الثالث:بقية الشعور التي ليس فيها أمر ولا نهي، فقال بعض الناس:إن أخذها حرام،لقول الله تعالى عن إبليس: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)(النساء: الآية119) هذا يستثنى منه ما أمر بإزالته كالختان وما أشبه ذلك.
قالوا: وهذا مغير لخلق الله، بينما كان ساقه فيه الشعر أو ذراعه فيه الشعر أصبح الآن ليس فيه شعر.
ولاشك أن هذا القول والاستدلال وجيه، لكن إذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام قلنا: هذا مما سكت عنه، لأنه لو كان ينهى عنه لألحق بما نهي عنه، وهذه قرينة تمنع أن يكون هذا من باب تغيير خلق الله عزّ وجل أو يقال: هو من التغيير المباح.
والذي نرى في هذه المسالة : أن الشعر يبقى ولا يحلق ولا يقص، اللهم إلا إذا كثر بالنسبة للنساء حتى شوه الخلقة،فالمرأة محتاجة إلى الجمال والتجمل، فلا بأس.
وأما الرجال فيقال: كلما كثر الشعر دلّ ذلك على قوة الرجل.
.10أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله .
وهل هذا النهي في عهد الرسالة ، أم إلى الآن ؟
في هذا قولان للعلماء منهم من قال: هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله،كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ" فقام الأقرع وقال:يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَو قُلتُ نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوع"[226] ، من أعظم الناس جرماً من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث الإنسان.
ولكن الصواب في هذه المسالة أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.
ومن ذلك: البحث عن اللحوم وعن الأجبان وعما يرد إلى البلاد من بلاد الكفار فلا تبحث، ولا تقل: هل هذا حلال أو حرام؟ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن اللحم في السوق، ما كان من لحم في سوقنا فسوف نشتريه ولا نسأل.
كذلك أيضاً لا نبحث عن مسائل الغيب ونتعمق فيها، ولا نبحث في صفات الله عزّ وجل عن كيفيتها، لأن هذا من التعمق، ولا نأتي بمعضلات المسائل التي فيها: أرأيت إن كان كذا، ولو كان كذا، ولو كان كذا كما يوجد من بعض طلبة العلم الآن، يوجد أناس يفرضون مسائل ليست واقعة ولن تقع فيما يظهر، ومع ذلك يسألون ، وهم ليسوا في مكان البحث، بل يسألون سؤالاً عاماً، فهذا لا ينبغي.
ومن ذلك أيضاً :ما كان الناس قد عاشوا عليه لا تبحث عنه إلا إذا علمت أنه حرام،فيجب بيان الحكم .
من ذلك : الذين قالوا:إن أذان الجمعة الثاني الذي زاده عثمان رضي الله عنه هذا بدعة لا يجوز، فنقول لهم: أين الدليل؟ ثم يأتي إنسان آخر،ويقول : ليس بين أذان الجمعة الأول والثاني إلا دقائق، فنقول له: من الذي قال لك ابحث عن هذا؟ فالناس من أزمنة كثيرة تتوالى عليهم العلماء والأذان الأول يكون قبل الثاني بخمس وأربعين دقيقة أو ستين دقيقة، والناس يمشون على هذا، فلا تبحث، دع الناس على ما هم عليه.
ثم لو فرض أنه ثبت أن بين الأذان الثاني والأول في زمن عثمان رضي الله عنه خمس أو عشر دقائق، فالوقت اختلف الآن، كانت المدينة صغيرة أقل من قرية من قرانا اليوم، أما اليوم فتباعدت الأقطار حيث يحتاج الإنسان أن يأتي من أقصى المدينة إلى المسجد إلى وقت، فليقدم الأذان الأول بحيث يتأهب الناس ويحضرون.
أشياء كثيرة من هذا النوع،ولكن هذا الحديث ميزان "فلا تَبحَثُوا عَنهَا".
.11إثبات رحمة الله عزّ وجل في شرعه، لقوله: "رَحمَةً بِكُم" وكل الشرع رحمة،لأن جزاءه أكثر بكثير من العمل،فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومع ذلك فالله عزّ وجل خفف عن العباد ، وسكت عن أشياء كثيرة لم يمنعهم منها ولم يلزمهم بها.
.12انتفاء النسيان عن الله عزّ وجل، لقوله "غَيرَ نسيَان" وقد جاء ذلك في القرآن الكريم،فقال الله عزّ وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)[مريم: 64] وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه: 52)
فإن قال قائل: ما الجواب عن قول الله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)(التوبة: الآية67) فأثبت لنفسه النسيان؟
فالجواب:أن المراد:النسيان هنا نسيان الترك، يعني تركوا الله فتركهم. فهؤلاء تعمدوا الشرك وترك الواجب، ولم يفعلوا ذلك نسياناً. إذاً: (نَسُوا اللَّهَ) [التوبة:67] أي تركوا دين الله (فَنَسِيَهُمْ) أي فتركهم.
أما النسيان الذي هو الذهول عن شيء معلوم فهذا لا يمكن أن يوصف الله عزّ وجل به، بل يوصف به الإنسان،لأن الإنسان ينسى، ومع ذلك لا يؤاخذ بالنسيان لأنه وقع بغير اختيار.
.13حسن بيان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ساق الحديث بهذا التقسيم الواضح البين والله أعلم.