شرح حديث: (اللهم اغفر لي وارحمني ...)
قال رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني)، رواه الأربعة إلا النسائي ، واللفظ لـأبي داود وصححه الحاكم . ]. المؤلف رحمه الله بعد أن بين لنا السجود (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)، بين ما سيفعله من سيرفع من السجدة الأولى، وقبل أن يعاود إلى السجدة الثانية؛ فجاءتنا الصلاة بهذا الترتيب الفعلي، وهيئة السجدة: أن يضع كفيه مضموة الأصابع رافعاً مرفقيه، فإذا رفع من السجدة وجلس تلك الجلسة ماذا يقول؟ هنا جاء الدعاء: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني)، وهناك ألفاظ أخرى (واجبرني) بدل: (وارحمني).
طلب المغفرة والرحمة من الله
هذه الجمل الخمس لو نظرنا في مجموع دلالتها: نجد المغفرة وهو طلب أخروي شامل، وارحمني: زيادة في المغفرة؛ لأن الغفران هو الستر والتغطية، والرحمة إنما هي إغداق النعمة على العبد، شاءت رحمة الله إدخاله في رحمة الله، فيمكن كما يقال: المغفرة أمر سلبي، والرحمة أمر إيجابي. (واهدني): الهداية أمر عام في أمور الدنيا والآخرة، والهداية في الدنيا هي: التوفيق لأعمال الخير والنجاح والمساعي، يهدى إلى طريق البر، وإلى فعل الخيرات مع الناس، والهداية في أمور الدين هي: التوفيق بالعمل الصالح والنتيجة كما جاء القرآن الكريم في أعظم مسألة في أعظم سورة في كتاب الله، وفي أعظم موقف بين يدي الله، وبعد التحميد والتمجيد والثناء على المولى سبحانه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
طلب العافية من الله
قوله: (وعافني): العافية أعظم مطلوب للإنسان، وكما جاء في ليلة القدر؛ لما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، تأمل هذا الموقف! أحب الناس إلى رسول الله، وتسأله عن أعظم مطلب عند المسلم وفي ليلة القدر: ماذا تقول فيها؟ وخير الخلق صلى الله عليه وسلم يقول هذا لأحب الناس إليه، أي: أنه سينصح لها كامل النصح، (قولي: اللهم ...)، وهذا التعليم ليس خاصاً بها، وإنما نقلته لنا لنتأسى بها فيكون للجميع، كما جاء الحديث: (قولي لواحد منكم كقولي لألف واحد)، تشريع عام، ونجد أيضاً المقدمة بين يدي الحاجة والسؤال: (اللهم إنك عفو ...)، هذا ثناء على الله بالصفة التي تريد الباب منها، كأنك عندما تريد أن تطرق باب العفو عند الله، فإنك تثني عليه بهذه الصفة، فلا أقول: اللهم يا رزاق اعف عني، يا رحمان يا رحيم اعف عني؛ لأن هذه لها أبواب مستقلة، يا رحمان يا رحيم ارحمني، يا رزاق يا كريم ارزقني، يا هادي اهدني، فتكون هذه من بابها، فجئت إلى باب العفو وطرقته وأثنيت على الله بتلك الصفة التي تريد أثرها يصل إليك.. أنا عفو ماذا تريد؟ أريدك أن تعفو عني. وإذا تأملنا هذا المطلب! فإن الإنسان في الدنيا والآخرة يريد المعافاة، والمعافاة: السلامة من الابتلاء، ويكون في عافية، والإنسان بماذا يبتلى؟ يبتلى إما في بدنه بالمرض، أو ولده وماله وزوجه بالفتنة، فإذا عوفي في بدنه فالحمد لله، وإذا عوفي في ولده بأن كان رضياً موفقاً مهدياً، وعوفي في زوجه: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14]، وإذا عوفي في سلوكه مع الآخرين وفي كل أمور دنياه، فإذا جاء إلى الآخرة وحظي بعفو الله سبحانه كان مآله إلى الجنة، إذاً: هو في دنياه معافى من البلاء، وفي أخراه معافى من العذاب؛ فتكون قد جمعت له هذه الكلمة خيري الدنيا والآخرة. وقد جاء في الحديث: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه)؛ لأن الأمن في السرب أيضاً من المعافاة، معافى من اللصوص والاعتداء والظلم، (عنده قوت يومه وليله؛ فقد حيزت له الدنيا بحاذفيرها)، وماذا في الدنيا أكثر من هذا؟ البدن متعافٍ، والقوت الذي يشبعه عنده، والمأوى موجود فهو آمن مطمئن، ولو بحث وراء ذلك من متعة لم يجد بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلها بين يديه بمتعها.
طلب الرزق من الله وعلاقته بالقدر
قوله: (وارزقني): هذا الرزق مضمون فعلاً عند الله، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] .. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)، وفي الحديث الآخر: (إن الرزق ليطلبك كما تطلبه، ولن تموت نفس من الدنيا حتى تستوفيه، فأجملوا في الطلب) اجعل الطلب جميلاً، والله سبحانه وتعالى قد وعد بالرزق عنده: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، ومع ذلك يأمرنا بأن نسأل الرزق، ونقول لأولئك الذين يتكلمون في القدر: إنما قدره الله سبحانه وتعالى وخفي علينا، وما شرعه الله فهو واضح إلينا، ونحن مكلفون بأن نأخذ ونعمل بما كلفنا به، أما ما وراء ذلك فلا دخل لنا فيه. كم شوشت على كثير من الناس علاقة العلم والقدر من المولى والأمر والتكليف من العبد، والله يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] إن الله سبحانه قد قدر كل شيء قبل إيجادك بآلاف السنين، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]، ... لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25]، وهي المعجزات الموضحة لصدق رسالتهم، وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]. مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، هل اطلعنا عليها؟ أرسل الرسل بالبينات ومعهم الكتاب يقرأ، وميزان العدالة يطبق، ماذا علينا نحن في هذا الموقف؟ هل نحن مأمورون بمقتضى ما كتب في اللوح المحفوظ، أم أننا مطالبون بتطبيق ما في الكتاب والميزان؟ بالكتاب والميزان، وهنا الرزق مضمون، ويكلفنا المولى أن نسأله الرزق، فهل هو تحصيل حاصل؟ لا والله، هناك أمر وقدر في علم المولى سبحانه، وهنا تشريع يجب الامتثال له، وهناك صورة قد يتيه الإنسان سنوات حتى يحصل عليها، وهي أن يكون الأمر عند الله وفي قدر الله على خلاف ما أمر به، وإنما يأمر به لتظهر نواحي اختيار العبد في القبول أو الرفض. الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاء إلى إسماعيل وقال: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وفي هذا تكليف لإبراهيم أن يذبح إسماعيل؛ فهل امتثل إبراهيم وأطاع إسماعيل أم رفضا؟ بل شهد الله لهما بالطاعة: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103]، أي: استسلما لأمر الله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، إلى الخطوة الأخيرة في عملية التنفيذ لأمر الله، ولم يبق إلا جرة السكين: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105]، افتحوا آذانكم يا إخوان! واتجهوا إلى المولى أن يشرح صدورنا، إن المولى عز وجل حينما أمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل عليهما السلام كان في علمه وقدره أنه لن يذبح، ومع ذلك يقول له: اذبح! كيف يقول له: اذبح وهو يعلم أنه لا ذبح، وهو لم يقدر ذلك؟! حينها علمنا بأن الله يعلم بأنه لا ذبح، ولم يقدر الذبح، وأمر إبراهيم بأن يذبح حال علمه سبحانه أن لا ذبح؛ لتظهر تلك الوقفة الكريمة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:102-103]، وكانت النهاية: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104] ، وهناك: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:105] .. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، إحسان إبراهيم وإسماعيل على أي شيء وهو لم يفعل؟ في القدر أنه لن يذبح، وهو نفذ خطوة القدر، وكان من المحسنين؛ لأنه أجاب وأطاع الله في الأمر الذي وجه إليه، وأمر القدر كان غائباً عنه. إذاً: الأمر والقدر من جانب الله، والتكليف والفعل يختص بالعبد، وإثابة العبد أو عقوبته على اختياره لأمرين هما سواء: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، لو كان غير إبراهيم وقيل له: اذبح! لقال: ما أنا بذابح! ولو كان غيره إسماعيل لقال: لست بمذبوح، ولن أسلم نفسي لك! ولكنهما تلقيا أمر الله التكليفي كأنه أمر كوني لا محالة منه، فكانا من المحسنين. وهنا الرزق مضمون: (ويؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أم سعيد)، رزقه مكتوب قبل أن يولد وهو نطفة في الرحم، وهنا قال: (وارزقني)، وإذا كان رزقك مكتوباً فلِمَ تسأل الله؟ نعم، أنا أُِمرت أن أسأل الله الرزق مع أنه مكتوب لأكون ممتثلاً أمر الله فيما كلفني به. ومن هنا نجد أن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر ودعاء؛ ولذا جاء: (الدعاء مخ العبادة)، وليس هناك عبادة تخلو من الدعاء، لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا جهاد، ولا أي عمل من العبادة لله إلا الدعاء فيه مثل تيار الكهرباء في الجهاز .. مخ العبادة، والإنسان بلا مخ هيكل، والعبادة بلا ذكر ولا دعاء هيكل، لذا كان الدعاء مخ العبادة، وجاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة)؛ لأنه إنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
الرد على من يقول بخفة ركن الجلسة بين السجدتين
هذا الدعاء الذي مر بنا بين السجدتين كم يستغرق من الوقت؟ لو قلتها بالسرعة المتوسطة لا بطيئة ولا سريعة هل يستغرق ذلك نصف دقيقة؟ أريد أن أقول: هذا يرد على من يقول: الجلسة بين السجدتين والرفع من الركوع ركن خفيف، وتقدم لنا أنه جاء عنه صلى الله علي وسلم بعد الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) وفي هذا أيضاً رد على من يقول: إنه ركن خفيف، ونجد من يقوم قائماً للقراءة فيركع، ثم عند الرفع لا يستقر قائماً ولا ثانية واحدة! وهذا مخالف لهذه السنة النبوية الكريمة، وكذلك يكون ساجداً ويرفع من السجدة، وقبل أن يستقر جالساً يهوي مرة أخرى، متى دعا؟ لم يدع بشيء، إذاً: المحروم من حرم نفسه من هذا الدعاء في هذين الركنين.